نالت الخطابة العربية حظاً زافراً من النضج والازدهار في
عصر بني أمية، وأصبحت غاية الخلفاء والقادة، ومنطق السادة والمصلحين، يعتمدون
عليها في التعبير عن آرائهم، والدافع عنها، وإقناع المتلقين، والتأثير فيهم،
لاستمالتهم إليها واقناعهم بها في مواقف الحياة المختلفة.
وجاءت فكرة هذه الدراسة وأهميتها، إيماناً من الباحث
بالدور العظيم الذي قامت به الخطابة في مواكبة التحولات والتطورات في الحياة
الإسلامية الجديدة، وبالمقابل فقد أثرت هذه التطورات في طبيعة الخطابة العربية
وخصائصها الأسلوبية والفنية جذري.
وتركز الدراسة على التحليل النصي للخطابة العربية في عصر
بني أمية، ومحاولة استنطاق معطياتها الفنية، واكتشاف قيمتها الجمالية، من خلال
اختيار قضايا أسلوبية بارزة، ودراستها دراسة تحليلية من خلال النصوص.
واعتمد المنهج الإسلوبي منهجاً للدراسة من خلال التركيز
على اللغة الخطابية، مع الإشارة إلى أن معطيات النصوص قد تفرض على الدراس أحياناً،
اللجوء إلى مناهج أخرى - تحقق الهدف والغاية من الدراسة.
ولعل من أهم الأسباب التي دعتني إلى هذه الدراسة :
الاعتراف أن الأجناس النثرية مغبونة إلى حد ما، فهي لم
تأخذ نصيبها من البحث. بذلك النزوع إلى التعمق والتحليل اللذين نالتهما دراسة
الشعر العربي.
يمكن القول إن التطورات الدينية والسياسية، والحربية،
والاجتاعية التي شهدتها الحقبة الأموية، قد عادت بالإيجاب على فن الخطابة وتطوره.
بحكم ثراء بواعثه ونتعاش دواعيه، حيث أصبح اللفظ سلاحاً حاسماً في الجدل بين الفرق
والطوائف والأحزاب والجماعات.
إن معظم الدراسات التي كتبت في الخطابة، انصبت على
مضامين النصوص الخطابية، وقد تناولتها بوجه عام، على الرغم من الحديث عن الخطابة
العربية في عصرها الذهبي، من غير الخوض في خصائصها الأسلوبية الفنية.
إن نصوص الفنون النثرية ومنها الخطابة تستحق إعادة
دراستها، من خلال المناهج النقدية الحديثة، والمساعدة على كشف جوانبها الفنية
والإبداعية المضيئة.
أما بالنسبة للدراسات في هذا المجال منها :
دراسة الدكتور محمد أبو زهرة "الخطابة العربية
أصولها تاريخها في أزهى عصورها عند العرب" والتي جمع فيها الكاتب معظم
المعطيات الخطابية العربي، مع ذكر خصائص الخطابة، بشكل عام، ولم تعن الدراسة
بالظواهر الأسلوبية، بل اعتمدت المنهج التاريخي في البحث.
ودراسة الدكتور إحسان النص (الخطابة العربية في عصرها
الذهبي)، من الدراسات المبكرة التي تناولت فن الخطابة في الوقت الحاضر، ولكن برغم
أهميتها الكبيرة في وضع أساس للدراسة الخطابية الفنية، إلا أنها وقفت أمام النص
الخطابي، دون محاولة الدخول إلى جوهره، معتمدة على المنهج التاريخي في البحث.
وجاءت دراسة الدكتور أحمد الحوفي (فن الخطابة) امتداداً
لدراسة الدكتور إحسان النص، والتي وقفت عند الظواهر الفنية للخطابة، ولم تبحث في
الظواهر الأسلوبية المنتشرة في الخطب، بل اكتفت بالإشارة إلى الظواهر، دون البحث
في تأثيرها الأسلوبي.
وحاولت الدكتورة مي يوسف خليف في كتابها (النثر الفني
بين صدر الإسلام والعصر الأموي، دراسة تحليلية) تجاوز المنهج التاريخي، ونجحت في
الكشف عن بعض الظواهر الأسلوبية، ولكن الشمولية في البحث كان على حساب الظواهر
الأسلوبية، مما جعل البحث يتجاوز ظواهر فنية كثيرة من غير دراسة أو تحليل.
وأما بالنسبة للصعوبات التي واجهت الباحث في الدراسة،
فقد تمثلت بافتقار البحث الخطابي إلى الدراسات الأسلوبية التي تخوض في جوهر النص
الخطابي، مما اضطر الدراس اللجوء إلى الدراسات الأسلوبية في الشعر العربي، ومحاولة
الاستفادة منها في وضع معطيات الدراسة.
من هنا كان هاجس الباحث في الرجوع إلى المصادر القديمة
للخطب، والعمل على اختيار اكثر النصوص موثوقية، مع مراعاة الأسماء والاتجاهات التي
تمثل مراحل الخطب المختلفة.
وكانت طبيعة هذه الدراسة أن تنتظم في تمهيد وخمسة فصول :
التمهيد : فقد
تكفل بكشف مصطلح الخطابة لغة واصطلاحاً، والحديث عن عناصر الخطابة. ثم عرض تطور
الخطابة في العصر الأموي، ومظاهر هذا التطور، واختتم بذكر ألوان الخطابة في عصر
بني أمية.
وأما الفصل الأول : فجاء بعنوان (التناص في الخطابة الأموية)، وقد اشتمل الفص على مهاد نظري
تحدث عن مفهوم التناص والآراء الغربية والعربية عنه، ثم قسم التناص في الخطابة
الأموية إلى تناص مباشر وتناص غير مباشر، وقسم التناص المباشر إلى : (ديني، أدبي،
شعبي، تاريخي)، بينما قسم التناص غير المباشر إلى تناص اللغة والأسلوب، وتناص
الأفكار والمعاني.
وكان الفص الثاني: عن "التضاد"، بدأ بالحديث عن مفهوم التضاد لغة واصطلاحاً، ثم
تناول آراء نقادنا القدماء لهذه الظاهرة، ويأتي - بعد ذلك - دراسة التضاد في
الخطابة الأموية من خلال ستة أشكال : التضاد على مستوى الفعل، ثم على مستوى
الموقف، والمستوى الإنساني، والمستوى الزماني، والمستوى المكاني، وأخيراً على
المستوى اللوني.
وفي الفصل الثالث : شكل (التكرار) المحور الرئيسي لذا جاء الحديث في بدايته عن مفهوم التكرار
لدى نقادنا القدماء، ثم عرض آراء النقاد المحدثين، وتناول الفصل ظاهرة التكرار في
الخطابة الأموية، من خلال تكرار الحرف والكلمة والبداية واللازمة.
وأما الفصل الرابع الأخير: فهو الصورة الفنية، وفيه برز جانب الصورة في الخطابة الأموية، بدأ بتعريف
الصورة، ثم دراسة ثلاث من الصور الفنية الأموية (الصورة المجازية، الصورة
الاستعارية، الصورة التشبيهية).
فإن أصبت فهذا أملي ومن الله السداد والرأي، وإن أخطأت فمن نفسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق