في قلب الجزيرة العربية، وفي العهد الجاهلي منذ ألف وخمسمائة عام، بدت ظاهرة رائعة لها دلالتها البعيدة: فئة من المضطهدين ينكرون على مجتمعهم، رغم تماسكه القلبي الشديد، مافيه من ظلم، وما يصيب الفقراء والمساكين من حرمان، ثم لا يكتفون بالإنكار اللفظي والنقمة الصفراء، بل يؤلفون طبقة من الثوار، يجردون السيف دفاعاً عن حقهم وحق إخوانهم البؤساء في العيش، فتنفيهم القبيلة ويجردهم المجتمع من حقوقهم في العشيرة، ويتقلب عليهم الناس ويهدرون دماءهم، فلا ينالون منهم شيئاً، وتبقى هذه الفئة الثائرة رمزاً حياً ونموذجاً رائعاً للمضطهدين الأباة، في كل بقعة من بقاع العالم، سماهم العرب، في جزيرة العرب: ذؤبان العرب وغربانها... وسماهم غير العرب أسماء مختلفة يجمعها أمر واحد : هو الرغبة في تبديل الواقع الأسود، الرغبة في توزيع الثروات توزيعاً عادلاً جديداً.
هذه الظاهرة الرائعة ذات الدلالة البعيدة في جزيرتنا العربية وفي جاهليتنا : هي ظاهرة الصعلكة، وهؤلاء الثوار المتمردون الرجال : هم الصعاليك.
هؤلاء الصعاليك، كانوا في مجتمعاتهم رجالاً أسوياء، يتصرفون في الحياة كما يتصرف سواهم من الناس، ولكن المجتمع حرمهم كل وسيلة من وسائل الكسب والعمل والعيش فذاقوا مرارة الجوع والحرمان، وهكذا وجدوا أنفسهم بين أمرين لا ثالث لهما : إما أن يرضوا بالجوع والحرمان ويعيشوا يتكففون الناس ويسألونهم أقواتهم صدقات وعطايا، وإما أن يرفضوا الجوع والحرمان ويعيشوا ذؤباناً وصعاليك ينالون قوتهم بسيوفهم. ولقد وقع اختيار الصعاليك على ما يقع عليه اختيار كل امرىء نبيل شريف، وقع اختيارهم على رفض الضيم والأنفة من الفقر والحرمان، وكوَّنوا طبقة من الثائرين عد منهم بعض المؤلفين العرب في قبيلة هذيل وحدها أربعين صعلوكاً كلهم من العائدين.
وكانت ثورتهم هذه ذات جانبين : ثورة على الفوارق الطبيعية بين الناس، وثورة على الفوارق العرقية، فقد وجدنا عدداً غير قليل منهم كانت أمهاتهم سوداً، وسموا من أجل ذلك ((غربان العرب)). وأراد مجتمعهم أن يعاملهم معاملة العبيد، فثاروا على مجتمعهم وفرضوا حريتهم فرضاً.
فكانوا يعطونهم ويرزقونهم، وربما زادوا على ذلك فحرموا أنفسهم القوت، وفرق الواحد منهم جسمه في جسوم كثيرة، وكان عفاة إنائهم شركة لا واحداً، بل ربما باتوا على الطوى واحتسوا قراح الماء البارد وتركوا غيرهم طعامهم وعشائهم.
هنا نجد ميزة لهؤلاء الصعاليك كرم النفس واليد، وظاهرة الكرم هذه في الحياة العربية على العموم، وفي حياة الصعاليك على الخصوص، إنما هي لون من ألوان التعاطف الانساني العميق، ليس هو الاشتراكية بمعناها الحديث المنظم طبعاً، وإنما هو لون من الاشتراكية واضح يعتمد المشاركة الفعلية في تصوير آلام الناس الجائعين أولاً وتصويراً دقيقاً، والسعي إلى تخفيفها سعياً لاهوادة فيه، ولو كان تخفيفها على حساب جائع آخر يعطي زاده أخاه ويبيت ولا زاد له.
وكان لا بد لهؤلاء الصعاليك وهم على ماهم عليه من ثورة على المجتمع، ومن شجاعة في النفس، ومن جود بما في اليد، كان لا بد لهم من أدب يسجل حياتهم القلقة وشجاعتهم الفائقة وكرمهم النادر، فكان شعر الصعاليك؛ ولعل هذا الشعر أن يكون في طليعة الشعر الجاهلي قوة وصدقاً وفناً.
وفي مقدمة هؤلاء الصعاليك، كان عروة، وفي طليعة ذلك الشعر كان ديوان عروة، وكان عروة بن الورد العبسي ثائراً من الطراز الأول بل كان زعيما للثائرين حتى كانوا يلقبونه ((أبا الصعاليك)). ثار على أبيه أولاً، فقد كان يؤثر عليه أخاه الأكبر، ويهمله، وثار على أخواله من نهد وجعل انتساب أمه اليهم عاراً عليه، وثار على الاغنياء من اللؤماء يكدسون الاموال ويمنعون حقوقها بالعقوق والبخل وهجا بني ناشب، وهم قبيلة من بني عبس هجاء مراً، ولكنه على ما يظهر لم يجعل غاراته مع صعاليكه على أغنيائها، وإنما آثر أغنياء القبائل العربية الاخرى، ولعل في بأس بني عيس، ماراده عن أن يجعل غزواته فيهم.
لقد كان عروة حقاً أبا للصعاليك، مثل حريتهم وثورتهم على الظلم وشجاعتهم في طلب الرزق والدفاع عن حقهم في العيش والحياة، وكرمهم وبذلهم أموالهم لاخوانهم في الفقر والجوع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق